كانت خيبر وكرًا للتآمر والدس، ومركزا للاستفزازات العسكرية والتحرشات بالمسلمين [1]، خاصة حين أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير فنزحوا إليها وأنفسهم تفيض حقدًا على المسلمين.
وغير بعيد ما قام به زعماؤهم من تأليب العرب على المسلمين وتحزيب الأحزاب في غزوة الخندق، ثم حثهم بني قريظة على الغدر بالمسلمين ونقض العهود التي كانت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم [2]، مما اضطر المسلمين إلى الفتك ببعض زعمائهم مثل اليُسَيْر بن رزام الذي كان يجمع غطفان لغزو الرسول صلى الله عليه وسلم[3] وأبي رافع سَلاّم بن أبي الحُقَيْق [4].
ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية، اغتنم فرصة مهادنته لقريش، وعزم على التوجه لليهود القابعين في خيبر وإنهاء وجودهم، وقد أمن هجوم القرشيين على المسلمين في ذلك الوقت، أو مساندتهم لليهود وتحالفهم معهم، فأقام بالمدينة شهر ذي الحجة وبعض محرم ثم تجهز للمسير إلى خيبر في بقية محرم [5].
خروج المسلمين إلى خيبر
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بروح إيمانية عالية، مخلصين لله موقنين بالنصر، مستبشرين بالغنيمة التي وعدهم الله إياها وهم في طريق عودتهم من الحديبية، في قوله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ..} الآية [6].
ولم يسمح النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين وضعفاء الإيمان الذين تخلفوا في الحديبية بالخروج معه، فلم يخرج معه إلا أصحاب الشجرة، تصديقًا لقوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ [7] يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [8] قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [9] فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا}[10].
قال الإمام القرطبي [11] رحمه الله في تفسير هذه الآية: "يعني مغانم خيبر لأن الله عز وجل وعد أهل الحديبية فتح خيبر وأنها لهم خاصة، من غاب منهم ومن حضر" [12].
وثارت الحمية في قلوب المسلمين لقتال عدوهم، لم يفتّ في عضد المسلمين كثرتهم وقوتهم [13]، ولم يثن من عزمهم مَنعة حصونهم، بل تحركوا إلى خيبر تملؤهم الثقة بالله، والاطمئنان إلى وعده بالنصر، وتدفعهم عقيدتهم الصافية وإخلاصهم لإعلاء كلمة الله [14]، فانطلقوا مهللين مكبرين رافعين أصواتهم بذلك، حتى أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفقوا بأنفسهم، وقال لهم: "إنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم" [15].
وسار الجيش في طريقه إلى خيبر ونزل عامر بن الأكوع [16] رضي الله عنه (يحدو بالقوم يقول:
اللهـمَّ لولا أنـتَ ما اهتـدَينــا
ولا تصــدقنــا ولا صـلَّيْنـــــا
فاغفِــرْ فِــداءً لكَ ما أبقينــا
وأَلقِيَـــن سكينـــةً عـليْنــــــا
وثبـــتِ الأَقْــــدامَ إنْ لاَقَيْنـا
إنَّــــا إذا صِيـــحَ بنـا أَبَيْنــا
وبالصِّياحِ عَوَّلوُا علَينا[17]
ونزل الجيش بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم بواد يُقال له الرجيع [18]، وكان بين اليهود وبين غطفان، وذلك ليحولوا بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر، وقد سمعوا بخروج النبي صلى الله عليه وسلم لخيبر، فجمعوا جموعهم، وخرجوا ليظاهروا اليهود، فلما ساروا مسافة، سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حسًا، فظنوا أن المسلمين قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم، وأقاموا في أهليهم وأموالهم، وخلوا بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين خيبر [19]، وكفى الله المؤمنين مؤونة قتالهم.
ولما أشرف الجيش الإسلامي على خيبر، وقف النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويستنصره، فقال: "اللهم رب السماوات السبع وما أظلَلْن، ورب الأرَضين السبع وما أقلَلْن، ورب الرياح وما ذرين، ورب الشياطين وما أضللن، نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها" [20].
وقدم المسلمون خيبر، وروحهم المعنوية كأفضل ما يكون، سموًا وبذلًا وتضحيةً في سبيل الله وكان قدومهم ليلًا، "وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى قومًا بليل، لم يُغِر [21] بهم حتى يصبح [22]، فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتِلِهم[23]، فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد والخميس [24]. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خرِبَت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ فساء صباح المنذَرين [25]" [26].
وقد حقق النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عنصر مفاجأة اليهود، حين رأوا جحافل الجيش الإسلامي مرابطة أمام مدينتهم فأوقع ذلك الاضطراب بينهم، وارتدوا إلى حصونهم هاربين فزعين.
بدء المعركة وفتح خيبر
حاصر المسلمون حصون خيبر [27] متأهبين لقتال اليهود، وقد أخذوا أسلحتهم وأعدُّوا عدتهم لذلك، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستثير همم أصحابه لمواجهة أعدائهم، وأن يحفز في نفوسهم البذل وحب الله ورسوله، فقال: "لأعطين هذه الراية غدًا رجلًا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" [28].
وعند ابن اسحاق رحمه الله: "يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه، ليس بفرار" [29].
فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته شرطين رئيسين للحصول على النصر بإذن الله وهما: حب الله تعالى ورسوله، والثبات في المعركة وعدم التولي في الزحف.
وتطلع الصحابة رضوان الله عليهم إلى نيل هذا الشرف، وتمناه كل واحد منهم، فقد روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: "فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب؟" فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال: "فأرسلوا إليه". فأُتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ".
ثم سلَّمه الراية، وأوصاه بدعوة اليهود إلى الإسلام قبل مداهمتهم وقتالهم، فالدعوة إلى الله ليست في حال السلم فقط، بل قد تكون والمسلم في قلب المعركة، فالمسلم داع إلى الله تعالى قبل أن يكون مقاتلًا، والدعوة إلى الله هي الأصل، والهداية خير من القتل [30] فقال له صلى الله عليه وسلم: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، واخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من أن يكون لك حُمْر النعم" [31]" [32].
وهذه الوصية تظهر مدى حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية الناس ودخولهم في الإسلام حتى لو كان ذلك سببًا في تفويت الغنائم على المسلمين.
والتقى الجمعان وأبدى المسلمون من ضروب الشجاعة والتضحية في سبيل الله ما أذهل اليهود، وجعلهم يستميتون في الدفاع عن أنفسهم وعن حصونهم.
shapert5y56h.jpg
غزوة خيبر – فتح خيبر – حصون خيبر
غزوة خيبر – فتح خيبر – حصون خيبر
وفتح الله على رسوله أول الحصون حصن ناعم، ثم فتح بعده حصن القَموص، ثم جعل النبي صلى الله عليه وسلم يفتح حصون خيبر واحدًا تلو الآخر، وكلما فتح حصنًا يهرب شراذم اليهود إلى الحصن الذي يليه، حتى انتهى إلى آخر حصونهم: الوَطِيح والسُلاَلم، فحاصرهم حصارًا شديدًا، حتى إذا أيقنوا بالهلكة ورأوا أن الدائرة عليهم، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحقن دماءهم وأن يسيِّرهم ففعل.
ثم سألوه أن يبقيهم على زراعة أرض خيبر مقابل نصف ما يخرج من ثمارها فأعطاهم ذلك [33]، على أن يخرجهم متى شاء، [34] وكان النبي قد حاز الأموال كلها: الشِّق ونَطَاة والكَتِيَبة وجميع حصونهم[35].
وقد جرت أثناء القتال مبارزات عديدة [36]، أظهر فيها المسلمون شجاعةً وإقدامًا عظيمين، وكان النصر فيها حليف المسلمين، ورأى اليهود منهم ما زلزلهم وقذف الوهن في قلوبهم.
رسول الله وأهل يهود فدك
وسمع من وراء خيبر من اليهود كأهل فدك [37] بما حدث لإخوانهم في خيبر، فبعثوا للرسول صلى الله عليه وسلم يسألونه الصلح، فصالحهم وحقن دماءهم وعاملهم في أموالهم وأراضيهم كأهل خيبر، أن يقوموا بها ولهم نصف الثمر.
وتم الصلح بينهم على ذلك، وكانت فدك خالصةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب، وكانت خيبر فيئًا بين المسلمين [38].
وسُر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بنصر الله تعالى، وطابت نفوسهم برضاه تعالى عنهم، وبما رزقهم من الغنائم، وكانوا قد حازوا كثيرا من المغانم وأصابوا كثيرًا من السبي.
وكان من جملة السبي صفية بنت حيي بنت أخطب [39] فأسلمت رضي الله عنها، واصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه وتزوجها، وقد روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه: "أنه اعتق صفية وجعل عتقها صداقها" [40].
ورافق فتح خيبر قدوم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من المهاجرين من أرض الحبشة، فوافوا الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتحه لخيبر وانتصاره على اليهود، فسُرِّ الرسول صلى الله عليه وسلم بقدومهم، وظهر عليه شعور من الفرح الغامر، فتلقاه وقبل جبهته وقال: "ما أدري بأيهما أنا أفرح، بفتح خيبر أو بقدوم جعفر؟" [41]، وأشركهم في الغنائم مع المسلمين.
قال أبو موسى الأشعري [42]رضي الله عنه وكان قد هاجر من اليمن فألقته وأصحابه السفينة في الحبشة، فبقوا هناك مع جعفر رضي الله عنه والمهاجرين: "فأقمنا معه حتى قدمنا جميعًا، فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فأسهم لنا أو قال: فأعطانا منها" [43].