غزوة بني لحيان
بعد رحيل الأحزاب عام 5 هـ انتقل المسلمون من دور الدفاع إلى دور الهجوم وأصبحوا يمسكون بأيديهم زمام المبادرة، وحان الوقت لتأديب بعض القبائل ومنهم بني لحيان وهم حي من هذيل، الذين غدروا بخبيب بن عدي رضي الله عنه وأصحابه يوم الرجيع 4هـ، وكذلك أخذ ثأر الشهداء، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتي صحابي، في ربيع الأول أو جمادى الأولى سنة ست من الهجرة [1].
تضليل العدو
كانت أرض بني لحيان من هذيل تبعد عن المدينة أكثر من مائتين من الأميال. وهي مسافة بعيدة، يلاقي مشاقَّ كبيرة كل من يريد قطعها، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على الاقتصاص لأصحابه من الذين استشهدوا (غدرًا) على يد هذه القبائل الهمجية التي لا قيمة للعهود عندها.
وكما هي عادة النبي صلى الله عليه وسلم في تضليل العدو الذي يريد مهاجمته اتجه بجيشه نحو الشمال، بينما تقع منازل بني لحيان في أقصى الجنوب.
وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم قبل تحركه نحو الشمال: أنه يريد الإغارة على الشام، وحتى أصحابه لم يعلموا أنه يريد بني لحيان إلا عندما انحرف بهم نحو الجنوب، بعد أن اتجه بهم متوغلاً نحو الشمال حوالي عشرين ميلا .. في حركة تمويهية على العدو بارعة.
وكان تغيير خط سيره من الشمال إلى الجنوب عند مكان يقال له (البتراء)، ففي ذلك المكان عطف بجيشه نحو الغرب حتى استقام على الجادة منصبًا نحو الجنوب [2].
فرار اللحيانيين قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم
كانت بنو لحيان على غاية التيقظ والانتباه، فقد بثت الأرصاد والجواسيس في الطرق ليتحسسوا لها ويتجسسوا لذلك, فما كاد النبي صلى الله عليه وسلم يقترب بجيشه من منازلهم حتى انسحبوا منها فارين، وهربوا في رؤوس الجبال، وذلك بعد أن نقلت إليهم عيونهم خبر اقتراب جيش المسلمين من ديارهم.
ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه عسكر في ديارهم ثم بث السرايا من رجاله ليتعقبوا هؤلاء الغادرين، ويأتون إليه بمن يقدرون عليه، واستمرت السرايا النبوية في البحث والمطاردة يومين كاملين إلا أنها لم تجد أي أثر لهذه القبائل التي تمنعت في رؤوس تلك الجبال الشاهقة، وأقام صلى الله عليه وسلم في ديارهم يومين لإرهابهم وتحديهم، وليظهر للأعداء مدى قوة المسلمين وثقتهم بأنفسهم، وقدرتهم على الحركة حتى إلى قلب ديار العدو متى شاءوا [3].
إرهاب المشركين بمكة
رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتنم فرصة وجوده بجيشه قريبًا من مكة فقرر أن يقوم بمناورة عسكرية يرهب بها المشركين في مكة، فتحرك بجيشه حتى نزل به وادي عسفان [4]، وهناك استدعى أبا بكر الصديق، وأعطاه عشرة فوارس من أصحابه وأمره بأن يتحرك بهم نحو مكة ليبث الذعر والفزع في نفوسهم، فاتجه الصديق بالفرسان العشرة نحو مكة حتى وصل بهم كراع الغميم [5]، وهو مكان قريب جدًا من مكة، فسمعت قريشٌ بذلك فظنت أن النبي صلى الله عليه وسلم ينوي غزوها فانتابها الخوف والفزع والرعب، وساد صفوفها الذعر، هذا هو الذي هدف إليه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الحركة التي كلف الصديق أن يقوم بها.
أما الصديق وفرسانه العشرة فبعد أن وصلوا كراع الغميم، وعلموا أنهم قد أحدثوا الذعر والفزع في نفوس أهل مكة عادوا سالمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتحرك بجيشه عائدًا إلى المدينة [6].
الترحم على الشهداء
عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بطن (غران) [7] حيث لقي الشهداء من أصحابه مصرعهم على أيدي الخونة من هذيل، ترحم على هؤلاء الشهداء ودعا لهم [8].
المصدر:علي الصلابي: السيرة النبوية - عرض وقائع وتحليل أحداث، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، الطبعة: السابعة، 1429 هـ - 2008م، 1/ 645- 646.