الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فإن للقلب قبلة يجب عليه أن يتوجه إليها، كما أن للبدن قبلة، فلو صلى إنسان مثلاً ألف ركعة وهو مولٍ ظهره للقبلة فإنها لا تغني عنه شيئاً، كذلك مهما قام الإنسان بالعبادات والطاعات في رمضان من صيام وقيام وقراءة قرآن وغيرها فإنها لا تحدث الأثر المطلوب، إلا إذا كان القلب متوجهاً إلى قبلته.
وقِبلَة القلب التي ينبغي أن يتوجه إليها هي أن يكون أكبر همه إرضاء الله -عز وجل- والفوز بالجنة والنجاة من النار
ولذلك قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- لبعض التابعين: "لأنتم أشد اجتهاداً من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكنهم كانوا أفضل منكم لأنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة".
فإذا كانت الفضيلة العظيمة لرمضان أنه تفتح فيه أبواب الجنة وتزين للراغبين، فلابد أصلاً أن تتوفر هذه الرغبة في الصائم القائم حتى يستفيد من هذه الفضيلة.
والسؤال الآن: كيف أقيس مدى تعلق قلبي بالدنيا؟ وهل مكانها فيه أكبر من الآخرة أم لا؟
ولتعلق القلب بالدنيا علامات كثيرة، ودرجات متفاوتة تظهر مثلاً في:
1- الدعاء: فالله -عز وجل- ذم أناساً على طلبهم للدنيا ليس لكون الدعاء بأمور الدنيا حراماً، أو حتى مكروهاً، بل لأنهم لا يطلبون غيرها، قال -تعالى-: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة:200-201).
فلو حاسبنا أنفسنا فوجدنا اجتهاداً في الدعاء لتفريج كربات الدنيا، وطلب شئ من أعراضها أكثر من اجتهادنا وتضرعنا في تفريج كربات الآخرة وطلب الجنة والنجاة من النار، فإن هذا من تعلق القلب بالدنيا، والعياذ بالله.
2- وتظهر أيضاً في الفرح والحزن: فمثلاًَ كلنا يعلم قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)، فإذا فاتتنا ركعتا الفجر وضاع منا مثلاً مبلغ من المال، أو فرصة من التجارة، أو وظيفة مرموقة لا شك أننا جميعاً سنحزن للأمرين، ولكن أي الحزنين أشد.
وكذلك الفرح: فمثلاً الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لأن أقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)، فهل نفرح بتوفيق الله لنا أن سبحناه أو ذكرناه كما نفرح بشهوات الدنيا وملذاتها إذا أقبلت علينا؟
3- ويظهر أيضاً مدى تعلق القلب بالدنيا في الأفكار والخواطر، كما قال ابن القيم -رحمه الله-: (تفقد قلبك عند ثلاث: عند قراءة القرآن وعند الصلاة وعند الخلوة إذا كنت وحدك).
فما هي الأفكار التي تهجم على ذهنك، هل هي في نصرة الدين ونشر الدعوة، ونيل الثواب وتحصيل الأجر، أم هي في تحصيل الدنيا والتوسعة على النفس في الشهوات حتى وإن كانت مباحة؟
وإذا كان الواحد منا مفرِّط في العبادة والطاعة طوال العام، وهو ينتظر شهر رمضان بفارغ الصبر حتى يعوِّض هذا التقصير المتواصل، فلابد إذن أن يكون أكبر همه كيفية الاستفادة من هذه الطاعات والعبادات، فإذا علم أن تعلق قلبه بالدنيا من أكبر العوائق بينه وبين ثمرة هذه العبادات جَدَّ في إزالته، وهذه هي أول خطوة في علاج أي مرض وحل أي مشكلة وهو إدراك مدى خطورته وكمّ الضرر المترتب عليه.
إن من تعلق قلبه بالدنيا لن يستفيد من قراءة القرآن، وحسبك بذلك عقوبة!! ولذلك أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يُعرِض عنهم قال -تعالى-: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (النجم:29-30)، فلا يستفيد منه إلا من كانت الآخرة أكبر همه قال -تعالى-: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ)(هود: 103).
ولذلك أمر الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن ينذر هؤلاء فقال: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)(قّ: من الآية45)، وقال أيضاً: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الأنعام:51)
وكذلك الصلاة فإنه لن ينتفع منها؛ فالصلاة التي لا يذكر العبد فيها الآخرة بلسانه صلاة باطلة، أعني قوله في الفاتحة (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، وكذلك إذا لم يذكر الآخرة بقلبه فأنى له أن يخشع أو يحضر قلبه، ولذلك لا يكون الخشوع في الصلاة إلا بالإقبال على الآخرة قال -تعالى-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:45-46)
ولذلك فقد ينصرف الإنسان منا من صلاته وما كتب له منها إلا عشرها؛ لأنه إنما كان منشغلاً بالدنيا في تسعة أعشار صلاته، ولم يُقبِل على الآخرة إلا في عُشرها.
ولذلك يذكر ابن القيم وغيره من العلماء أن الالتفات في الصلاة نوعان: التفات بالبصر، والتفات بالقلب، وهو أن يكون حب الدنيا متوغل في القلب حتى أنه لا يستطيع أن يفكر في غيرها، والعياذ بالله.
فقد وضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- علاج ذلك المرض بقوله: (اذكر الموت في صلاتك؛ فإنه حري أن تحسنها)، وقال: (صلِّ صلاة مودع)، وقس على ذلك بقية العبادات.
إن أول خطوة في العلاج هو استشعار الخسارة الفادحة التي يخسرها من تعلق قلبه بالدنيا، والعجيب أنه فوق ما يخسره في الآخرة أنه يخسر الدنيا نفسها -والعياذ بالله- كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من كانت الدنيا همة فرق الله عليه شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له).
إذا استشعر العبد خطورة المرض فإن دعائه حينئذٍ سيكون دعاء المضطر الذي لا يرده الله -عز وجل-، فإذا دعا بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا) فإنه سيكون نابعاً من قلبه صادقاً مضطراً إلى ربه، وكذلك إذا دعا بالدعاء المنسوب لداود -عليه السلام-: (اللهم اجعل حبك أحب إليَّ من الماء البارد على الظمأ)، وكذلك دعاء: (اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع).
فالاجتهاد في الدعاء هو الحل لجميع المشاكل، والشفاء لجميع الأمراض؛ ولذلك قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء)، وقال: (الدعاء سلاح المؤمن)، فأول ما يفزع إليه المؤمن هو باب ربه -سبحانه وتعالى-.
وكذلك مما يعين على إزالة تعلق القلب بالدنيا هو المقارنة بينها وبين الآخرة، كما دعانا الله -عز وجل- بقوله: (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (القصص:61).
وتأمل قوله -تعالى-: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) (الشعراء:205-207).
وقد فارق لنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين الدنيا والآخرة، ووضح لنا نسبة الدنيا إلى الآخرة بقوله: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بماذا يرجع ؟)
ومن المقارنة بين الدنيا والآخرة المقارنة بين حال المنعَّمين في الدنيا والمعذَّبين في الآخرة، وحال المبتَلَيْنَ في الدنيا المنَعَّمين في الآخرة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة ثم يقال له هل رأيت نعيماً قط فيقول لا يا ربي وعزتك ما رأيت نعيما قط، ويؤتى بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة فيغمس في الجنة غمسة فيقال له هل رأيت بؤساً قط هل مر بك شدة قط فيقول لا يا ربي وعزتك)
قارن بين مساكن الدنيا مهما بلغت من الضخامة والفخامة، هل تجد فيها بناءاً بالذهب والفضة، أو باللؤلؤ؟ قارن بين خمر الدنيا وما فيها من سكر ومرارة وصداع، ونَتَن في الرائحة، وبين خمر الجنة التي قال الله -تعالى- عنها: (بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) (الصافات:46)، وقال (لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ) (الواقعة:19)، وقال: (خِتَامُهُ مِسْكٌ )(المطففين: 26).
وهناك وجه أخر للمقارنة بين الدنيا والآخرة، هو المقارنة بين ما في الدنيا من تعب ونصب وأذى، وبين ما في النار من ذلك، فإنه يهون على الإنسان الجَهْد والجهاد في سبيل الله -عز وجل- كما قال -سبحانه وتعالى- لمن تخلف عن الجهاد؛ إيثاراً لراحة بدنه وهروباً من أذى الحَرّ (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)(التوبة:81)
وإذا نظرت في حال الأنبياء والصالحين غَيَّر ذلك من طبيعة اهتماماتك، وما يتعلق به قلبك، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيد الزهاد الذي ضرب أروع المثل في ذلك، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما شبع آل محمدٍ من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض -صلى الله عليه وسلم-"، وأخرجت للصحابة كساءاً ملبداً ( أي مرقعاً ) وإزار غليظاً، وقالت: "قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هاذين"
هذا كان حاله ولو شاء لجعل الله له الجبال ذهباً وفضة، ولكنه لشدة زهده -صلى الله عليه وسلم- فيها، وخلو قلبه من التعلق بها لم يدع الله أصلاً -صلى الله عليه وسلم-.
وهناك وسائل أخرى عديدة لعلاج تعلق القلب بالدنيا منها: ( تدبر القرآن - تذكر الموت - زيارة المقابر - زيارة المرضى - كثرة الصدقة ).
[size=21]
وأختم بهذه الآية التي أرى أنها كافية لمن تدبرها في بيان قيمة الدنيا عند الله -عز وجل- الذي خلقها، مما يكفي في المؤمن في أن يجاهد نفسه أن يكون قيمة الدنيا عنده أكثر مما عند ربه -عز وجل- قال -تعالى-: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (الزخرف: 33-35)