بعث الله إبراهيم - عليه السلام - وليس على وجه الأرض يومئذ مسلم فجرى عليه من قومه ما جرى وآمنت به امرأته سارة ثم أمن له لوط - عليه السلام - ومع هذا نصره الله ورفع قدره وجعله إماما للناس ومنذ ظهر إبراهيم - عليه السلام - لم يعدم التوحيد في ذريته كما قال تعالى: { وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } فإذا كان هو الإمام فنذكر شيئا من أحواله لا يستغني مسلم عن معرفتها فنقول: في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لم يكذب إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم قط إلا ثلاث كذبات: ثنتين منهن في ذات الله قوله: { إني سقيم } وقوله: { بل فعله كبيرهم هذا } وواحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت من أحسن الناس فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك فلما دخل أرضه رأها بعض أهل الجبار فأتاه فقال: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك فأرسل إليها فأتي بها فقام إبراهيم إلى الصلاة فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: دعي الله أن يطلق يدي فلك الله أن لا أضرك ففعلت فعاد فقبضت يده أشد من القبضة الأولى فقال لها مثل ذلك فعاد فقبضت يده أشد من القبضتين الأوليين فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي ولك الله أن لا أضرك ففعلت فأطلقت يده ودعا الذي جاء بها فقال: إنك إنما جئتني بشيطان ولم تأتني بإنسان فأخرجها من أرضي وأعطاها هاجر فأقبلت فلما رآها إبراهيم انصرف فقال لها: مهيم؟ قالت: خيرا كف الله يد الفاجر وأخدم خادما » قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء
وللبخاري: « أن إبراهيم لما سئل عنها؟ قال: هي أختي ثم رجع إليها فقال: لا تكذبي حديثي فإني أخبرتهم أنك أختي والله ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك فأرسل بها إليه فقام إليها فقامت تتوضأ وتصلي فقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي يد الكافر فغط حتى ركض برجله الأرض فقالت: اللهم إن يمت يقال: هي قتلته فأرسل ثم قام إليها فقامت تتوضأ وتصلي وتقول: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي هذا الكافر فغط حتى ركض برجله فقالت: اللهم ثم إن يمت يقال: هي قتلته فأرسل في الثانية أو الثالثة فقال: والله ما أرسلتم إلي إلا شيطانا أرجعوها إلى إبراهيم وأعطوها هاجر فرجعت إلى إبراهيم فقالت: أشعرت؟ إن الله كبت الكافر وأخدم وليدة » وكان عليه السلام في أرض العراق وبعدما جرى عليه من قومه ما جرى هاجر إلى الشام واستوطنها إلى أن مات فيها وأعطته سارة الجارية التي أعطاها الجبار فواقعها فولدت له إسماعيل عليه السلام فغارت سارة فأمره الله بإبعادها عنها فذهب بها وبإبنها فأسكنهما في مكة ثم بعد ذلك وهب الله له ولسارة إسحاق عليه السلام كما ذكر الله بشارة الملائكة له ولها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب
وفي الصحيح عن ابن عباس قال: « لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعه شنة فيها ماء فجعلت أم اسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد - وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء - ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فلما بلغوا كداء نادته من ورائه: يا إبراهيم ! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شئ؟ فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: الله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم قالت: إذن لا يضيعنا وفي لفظ: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله قالت: رضيت ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون } وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال: يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل إليها فقامت واستقبلت الوادي تنظر: هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك سعي الناس بينهما - ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل - تعني الصبي - فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت فلم تقرها نفسها فقالت: لو ذهبت لعلي أحس أحدا؟ فذهبت فصعدت الصفا فنظرت فلم تحسن أحدا حتى أتمت سبعا ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل؟ فإذا هي بصوت فقالت: أغث إن كان عندك خير فإذا بجبريل قال: فقال بعقبه على الأرض فانبثق الماء فذهبت أم إسماعيل فجعلت تحفر فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا - وفي حديثه: فجعلت تغرف الماء في سقائها - قال: فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن ها هنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله وكان البيت مرتفعا من الأرض كالزابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم مقبلين من طريق كداء فرأوا طائرا عائفا فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا وقالوا لأم إسماعيل: أتاذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا: نعم - قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس - فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل وجاء إبراهيم - بعدما تزوج إسماعيل - يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه؟ فقالت: خرج يبتغي لنا ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بشر نحن في ضيق وشدة فشكت إليه قال: فإذا جاء زوجك أقرئي عليه السلام وقولي له: يغير عتبة بابه فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ - كذا وكذا - فسألنا عنك؟ فأخبرته وسألني: كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة قال: فهل أوصاك بشئ؟ قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول: غير عتبة بابك قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك فطلقها وتزوج منهم امرأة أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله فقال لأهله: إني مطلع تركتي فجاء فقال لامرأته: أين إسماعيل؟ قالت: ذهب يصيد قالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب؟ قال: وما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم - قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بركة دعوة إبراهيم فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم حب دعا لهم فيه - وسألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله قال: إذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه فلما جاء إسماعيل قال: هل آتاكم من أحد؟ قالت: نعم شيخ حسن الهيئة - وأثنت عليه - فسألني عنك؟ فأخبرته فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير قال: هل أوصاك بشئ؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك قال: ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك ثم لبث عنهم ما شاء الله فقال لأهله: إني مطلع تركتي فجاء فوافق إسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال: يا إسماعيل ! إن الله أمرني بأمر قال: فاصنع ما أمرك ربك قال: وتعينني؟ قال: وأعينك قال: فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتا - وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها - قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } » هذا آخر حديث ابن عباس